تبدأ علاقتي مع الشمس كلما طرق رمضان باب وقتي، أشعر بشيء قد تغير في روحي، المواعيد، وجوه الناس، الطُرقات، الظلال، صوت قارئ القرآن، برامج الفضائيات، مواقيت الأذان، تلبس الأشياء معاني أخرى، يصبح الوقت مناسبا للتذكر، تناديني عذوبة التأمل، تنفتح أمامي سبل أخرى للطمأنينة، تصحو ترنيمة الزمن المهاجر في اتساع الأبد، يعود الوجه الجميل للانتظار، وتعود التفاتتي الطفلة إلى الساعة في زحف دقائقها على معصمي، يتضح لي معنى آخر للجوع غير المعنى الذي عرفته بعد الفطام، أستعد للوقوف طويلا أمام ذاكرتي والتنفس بعمق أمام البحر، تعتريني أحاسيس يصعب الإمساك بها في الليل، في رمضان يغتسل وجه النهار بصفاء غريب، يخفت صوت المارة حتى يقترب من الهمس، يقف الجميع في لهفة انتظار الأذان، تغيب الشمس كل يوم، لكن غيابها في رمضان يختلف، يمتزج في غياب شمس رمضان كل شيء، الترقب والعطش والإيمان والصبر والتعب والأمل، تولد لغة جديدة بين الناس والكون في رمضان، تتضاءل سطوة الشر، وتقترب الرغبة في التوبة .
أذكر تلك الأيام في رمضان، حين كان يصادف قدومه موسم الشتاء المبتل بالرعود والمطر، وبرودة الكروم تجبر العصافير على دخول البيوت من أبوابها، كان النهوض للسحور نوعا من العذاب للصغار النائمين في دفء الفِراش، كان صوت أبي يزداد علوا كلما تأخرتُ في النهوض، وأخيرا أنهض بعد أن تتسلل إلى أنفي رائحة الفطير او الحلبة كانت جلبة السحور التي يثيرها صحونا تطرد النوم ونبدأ شيئا فشيئا التعرف على ما تحتويه مائدة السحور كنتُ وقتها لا أعرف السر في الصحو الليلي قبل الفجر بنعاس، ولم أكن أستوعب إصرار المسحراتي على إيقاظ النائمين رغم الريح الباردة والمطر الوشيك، كل ما لدي كان أسئلة، أصبحتُ الآن أفهمــــها كما فهمتُ الدنيــــا، أشياء كثيرة نفهمها بعد أن يصبح الفهم ليس ضروريا .
يجيء رمضان الآن بعد أن استوعبتُ ما لم أستوعبه في أيام العمر البعيدة، بيني وبين شهر رمضان الآن معرفة قديمة، لم يتغير هو، لكن تغيرتُ أنا، قرأتُ في دفتري منذ السطور الأولى، وجدتُ براءة منتهية الصلاحية، وأحلاما بلهاء تتصور أن القمر لي وحدي، وأن البحر ما هو إلا دموع حبيبتي التي تبكي غيابي، شهر رمضان يزورني الآن وكأن في قدومه قدوم أبي ونظرته التي كانت تخترق عيوبي كلها، أحس برمضان الآن كما أحس بعزيز ظل يعلمني الحكمة حتى ابيض ليل مفرقي، أحسه يعرفني كما يعرف الآباء الحكماء أبناءهم