بشرى مبارك
عدد المساهمات : 7557 تاريخ التسجيل : 19/02/2009 العمر : 65 الموقع : أقيم فى بيريطانيا مدينة بيرمنجهام
| موضوع: الشاعر محمد الحسن سالم حميد الى رحاب الله فى حادث حركة بمنطقة القبولاب الأربعاء 21 مارس - 18:31 | |
| توفى الى رحمة مولاة إثر حادث حركة فى منطقة القبولاب فى الولاية الشمالية الشاعر محمد الحسن سالم حميّد اللهم أغفر له وأرحمة وعافة وأعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله وأغسله بالماء والثلج والبرد ونقّه من الذنوب والخطايا كما ينقّى الثوب الابيض من الدنس وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار. وأقول راثياً له بهذا المسدار
وداعاً يا رهيف الكلمة يا ود سالم الحُمّييد وداعاً من كل زوول سودانى سودانى مدّ الإييد وداعاً من سمع لى حرفك الدايماً عليهو عليهو تزييد ونترحم ونتوسل بالدعاء من كل من كان لى حرووفك إعييد يقول الرحمة تتغشاك يقول المولى يستناك بى رحمة وعليك يزييد
والان أكتب ما كتبتة الرآى العام صباح اليوم الأربعاء بعد تشيع جثمانة بالامس بالحاج يوسف .
مشيت يا (سالم) الحبوب بعد وريت طيور الحلة .. تلقى العافية وين وحبوب بعيد عن نبله ولا رصاصة .. ولا شرك رماد منصوب مقطع من الملحمة الشعرية (فاطنة) (1) أخر صورة لحميد حسن سالم كما يحلو لأهله، والتي بالمناسبة تماهي الصورة الدائمة العالقة في قلب مريديه، وأتذكرها حالياً في غباش (فاليوم للغبش .. وليأتي الغد بالحال الذي يريد) ناجم عن فراغ قلبي كفؤاد أم موسى ساعة ألقته في اليم، وعن ذرات الغبار التي كست الجو وعلقت فيّ، بالتزامن مع دموع تأبى أن تنسال أو تجف منابعها، هي صورته بالعراقي الأبيض، النظارة السوداء، متوسطاً (عنقريب) من الحبل لا يعرف الوسائد، وبأقصي الصورة من جهتها الشرقية يسكن كوز فارغ مصنوع من النيكل، وفي خلفية اللوحة خليط من شجر المانجو والنخيل، فيما يدخل على الصورة (رادي الدندهوب) كلمةً شاذة، ربما لكونه -كعادته- ينشز لصانع (الضو) وشخصيته (منونياً) مع هنا أم درمان: (حبيبتي آه وودادي وين وحبيبي وُوب .. والباقي كلُّو مقابلات .. والنشرة ما في ولا خبرْ .. عن بلدُو عن شِدَّة عَنا). (2) وشدة العناء ذاتها، تدفعني لتذّكر ليلة بمثابة (القدر) وتجنباً للمبالغة (ليلة القدر) خاصتي، من أيام سني الدرس بجامعة كردفان، سيذهب واهم إلى أنها ليلة التخرج، وآخر على أنها إحدى ليال انتصارات (الوحدة الطلابية) التالدة أيام المنبر النقابي، وسيذهب أخر إلى أنها تلك الليلة التي (أنشدّت) فيها تلك الغادة الحسناء القادمة من وراء بحور العرب ناحيتي (زي سلكاية في طنبور). لكنهم أجمعين على خطأ، كوني أعرف -يقيناً- تلك الليلة بأنها الليلة التي قدم فيها حميد ليحاضرنا عن الوطن، وينشدنا الغبش، ويساررنا عن الكيفيات الملائمة لصناعة المستقبل وذلك قبل أن يعرف العالم مصطلح خارطة الطريق، تناسينا يومهاً عمداً اختلافاتنا السياسية مع طلاب (الجبهة الديمقراطية) وطلبنا ودهم أملاً في رفدنا بحصاد التسجيلات الصوتية لزائرهم في عصور ما قبل الموبايل، ولكنهم تناسوا وقتها كل أفكار زعيمهم ماركس الاشتراكية وأخبرونا برأسمالية أنهم الوكيل الحصري لكاسيت الليلة ومهروا أقوالهم بتوقيع أسفل يسار أحاديثهم، وحمل اسم (الجبهة الديمقراطية- فرع شركة حصاد للصوتيات والمرئيات). المهم، أمتلات يومها المدرجات كـ (سنبلات خضر) عن آخرها، وضاقت القاعة ذرعا دون بوادر للفرج، حد إثارة غيرة وحفيظة أساتذتنا المتنطعين، حال قرروا برشد، مغادرة متردمهم المشيد بالأسمنت وزيارة الجامعة، كافين عن صم آذانهم وإستغشاء ثيابهم وقوفاً إلى جانب الحق، والحق واجب الإتباع الذي كان يمشي على قدميه متبختراً ساعتها بين الناس، يشير بزيه وسبابته وإبهامه جهة محاضرات الأكاديميين البوار، منزورعة الروح والدسم ويدمغها بأنها السبب الرئيس في عزوفنا عن القاعات، قاصرين دخولها ما أمكن على فترات الامتحانات والبدائل والملاحق، هذا إن لم نقصر (الشر) على طريقة (أدروب) و(نبيت) أو بمصطلحات الجامعة الـ (ريبيت). (3) جلسنا يومها صمتاً كـ (صنة شيخ على حافة جرح والدم معكم في الحجر تاريخ)، إجلالاً لمهابة الفارس الخارج من أساطير اليونان، الطال من حماسة مهيرة بت عبود، ومناحات بنونة بت المك نمر، وبسالة أنصار المهدي قبالة مدفع المسكيم، وثبات ود حبوبة أمام صلف الانجليز، وأبنوسية علي عبد اللطيف في نمو أشواقه ناحية مصر، وخطب الفضلي وزروق الفذة لمرتادي نادي الخريجين، ودمور أزهري ومنديله أو (علمنا) الأبيض، وهدوء ورزانة عبد الخالق محجوب حتى في ساعات غضبة النميري، فضلاً عن جلبة العمال وانتصاراتهم بقيادة (شفيعهم) ود أحمد الشيخ. ساعات من عمر الزمان قضيناها، ونحن في جهجهة مع (الضو) المحاط بالبحر، ومع صريخنا لـ (عم عبد الرحيم) يا حاج القطر ياحاج القطر، وفي الحراسات مع (الزين ود حامد) والنوباوية، وفي المهاجر وراء المقود مع (هاشم ولد زينب بنت وراق)، ومع (حمتو) إنتظاراً لأوبته، ومع (السرة بت عوض الكريم) الدغرية بعد أن قرر النيل ذاته الإنحناء للجغرافيا بالقرب من دارها، ومع (عيوشة) في رقصات الهيجان، ومع (نورا) مفسرة الأحلام وموصدة ترابيس (الأشعار) بأن قضي الأمر الذي فيه تستفيان. ساعات، ونحن نتلمس الجغرافيا .. بالكلمات، ومن يعرف حميد لن يلجأ لـ (قوقل أيرث) بغبائه الجمّ وهو يضع نقطة على خريطة ويسميها لنا مدينة، فمن لاذ بقصائد حميد سيجد تاريخ المدن، نزقها، شخوصها أحداثها، وتطلعات أهليها، وكل علم اجتماعها .. والانثربولجي. عرفنا (الجابرية)، بخطوط طولها وعرضها، وكيف يمكن أن يكون نباح كلابها دفاعاً عن العرض، أصدق إنباءٍ من خطب رموز قادتها بحثاً عن أصوات الناخبين، و(أتبرا)، رجالاتها الموسومون بالهيبة فيما تتسربل نساؤها بـ (الحِرة) وهو ما مكن صديقنا الطيب، الابن غير البار لمدينة الحديد والنار، أن (يخوجل) في طرقات الجامعة بطاؤوسية طيلة أيام تلت الليلة الشعرية، قامعاً كل عبارات سخريتنا المعتادة بحركة مزدوجة ييمم فيها وجهه تلقاء قاعة كردفان كما (هبنقة) -أيا كان موقعه- وبعدها يتلو على مسامعنا: (يا عطبرة الطيبة يامنجم الثورات .. جيتك بعد غيبة وغربة وطي جمرات رجالك الهيبة نسوانك الحارات) فنبلع ريقنا ونلعن وحي حميد الذي تنزّل على أبو الطيب (المتجوهل) ليعرف بغتة قدر مدينته التي كان جلّ معرفته عنها أنها مدينة (الأمل) .. عطبرة. (4) رحل حميد، ولكن بعدما علمنا التحزب للإنسان (شن الطين وشن المال وناس بيتك مراضى جهال)، والمناداة والمطالبة بالخدمات كحقوق واجبة السداد (دايرين بوسطة ومدرسة وسطى .. الشفخانة وسوق منضبطة)، والإنحياز لطبقة الغبش (من التعب البلا صالح تفيقي تروقي تنجمي)، والوقوف صفاً ضد منابر العنصرة (كلنا لآدم .. وآدم أبو البشرية)، ومنصات الجهوية (بس الما هو عادي .. ده من وادي حلفا .. وده من كاجو كاجي .. وده من كردفان) والتعلق بأستار المواثيق التي يتشدق بها العالم اليوم (نورا تحلم بي عوالم زي رؤى الأطفال حوالم .. لا درار لا عساكر لا مظاليم لا مظالم) كما علمنا كيف نهيم عشقاً بنادوس (ولمن يجهلون حميد، فما نادوس الا مقلوب كلمة (سودان) فرددنا مع المجنون، مجنون نادوس: (أيوه بحبك حباً جما وياما بحبك يانادوس). رحل محوّل حياتنا وأوجاعنا لشريط سينما (يا دنيا زي سكرة وتفك)، ومصدّر عباراتنا وأمثولاتنا بعد تدويرها وإعادتها إلينا في قالب من البساطة المدهش حتى نهتف (يا ألطاف الله) كحين يقول: (كما أنه المطر من طين .. كمان من طين بيجي الرواق). رحل، أباطه والنجم، فما هو (قارون)، رحل دون حاشية تحول بينه والناس فما هو (هارون)، رحل دون (نوبل) التي كان يستحقها لولا أننا لا نعرف أقدار الرجال، رحل بعد أن ترك لنا إرثاً سنبكيه كالنساء، رحل وتركنا شتى حول من يخلفه، وفي النهاية كحال قادة الأسكندر الأكبر (غازي العالم) بعد مواته سنتقاتل وندعي أحقية وراثته فيما سيظل كرسيه فارغا، رحل بعد أن أمننا على صياغة مشروعه الشعري إلى واقع معاش .. ولكن هل نقدر؟هل نستطيع؟ (5) بالأمس ترجل حميد، واضعاً قشة أخرى على ظهر بعيرنا، ومضيفاً للشعر بيت (ولكنه أخير) مجهضاً أحلام (الثوار) في هبة الشارع لمرة ثالثة، فالبلاد حد قادتها تخلو من أسباب الربيع العربي، وتخلو اليوم من شاعر يؤسس لشعبها معني أن يعيش وينتصر. رحل حميد، معلناً بأن الموت ليس إطلاقاً بقضية الميت وإنما هو قضية الباقين، رحل والباقين يدورون في ساقية الغلابة المتعبين، وفي فلك السؤال السرمدي: لماذا يموت الشاعر وتبقى كلماته .. ألم يقل هو كل تلك الحياة؟!! | |
|