عليّ أن أعترف، بأن ساقيّ ما عادتا قادرتين على المشي لمسافة أطول من 2 كيلومتر، وأن قلة الحركة تسببت في هذا التراجع الذي ألحظه كلما قررت أن أكسر هذا الرقم أو كلّما أطلتُ من ساعات وقوفي لأي سببٍ وإن كان أمام المرآة رفيقةِ الشباب والصبا، عليّ أن أعترف أنني أهرب من الخطوط الدقيقة التي ظهرت تحت عينيّ، أهرب إلى العمل، إلى السوق، إلى المقهى، غير أن الشوارع لم تعدْ كما كانت عليه في السابق آمنة وصديقة، فالطرق السريعة ساهمت باعتمادي الكلي على استخدام السيارة في التنقل من مكان إلى آخر، كما أن السرعة القصوى التي يصرّ السائقون على تجاوزها زرعت فيّ الكثير من المخاوف في قطع الطرق لئلا أعرِّض نفسي لحوادثَ أشعرُ أنني في غنى عنها، عليّ أن أعترف أيضا أن حرارة الجو واحتمال الإصابة بضربة شمس جعلتني ألغي فكرة المشي في الهواء الطلق، وقيدتني خلف مقود السيارة المكيفة، علي أن أعترف أيضا أن الحياة العصرية قد أنهكتني واستهلكت معظم وقتي، ولم تترك لي الوقت الكافي للالتفات إلى مطالبي الصغيرة التي تحقق لي السعادة الحقيقية.
عليّ أن أعترف أن إيقاع حياتي قد تغير، هذا الجري السريع، وهذا الصخب، إلى أين يمضي بي، إلى لا شيء، إلى لا مكان، إلى الفراغ ينهش أعماقي ولا أشعر بالهوة التي أوقعني فيها بسبب ازدحام أجندتي اليومية بأشياء لو تأملتها مليا وفكرت بجدواها لوجدت أنها تضيع عليّ متعة الحياة بتفاصيلها البسيطة، فكرت كم مرّ من الوقت منذ آخر مرة ذهبت فيها إلى البحر لتأمل صفاء زرقته وكم مر من الوقت منذ آخر مرة جلست فيها على العشب أقرأ في كتاب، وكم مر من الوقت وأنا بعيدة عن الناس والأصدقاء، يتقاسمني الشارع والسرير بالتناوب، متى آخر مرة زرت فيها عمتي، ومتى آخر مرة تجولت فيها في الشوارع القديمة وتحدثت مع الناس البسطاء الذين يفترشون الأرض ببضائعهم اليدوية، متى آخر مرة شربت فيها الشاي معهم، متى آخر مرة مشيت فيها تحت المطر، أو تسلقت جذع شجرة وجلست بين أغصانها أدندن أغانيَ قديمةً،
أريد أن أكسر الآن روتين الحياة التي حاصرتني لأعوام طويلة، سأكسره بطفولة لم تزل تحبو في أعماقي، وليكن ما يكن بعدها، سيقول الناس جُنَّتْ، نعم جننتُ، أريد لحياتي أن تعود لبساطتها وتلقائيتها بعيدا عن القوالب الجامدة التي أثلجت الدماء في عروقي وأفقدتني القدرة على المشي لمسافة تزيد عن نصف كيلومتر في الساعة
موضوع: طريق للمشى 
الأربعاء 29 يوليو - 18:39
