الاستاذ محمد عبدالقادر من الرآى العام وياقلب كايس ليك دبارة

خريف القضارف كان سخياً كعادته في ذلك العام، وأنا أطلب القرب منها متلهفاً لرؤية شخص عزيز، غيمات مُسافرة كانت تسبقني إلى هناك قبل أن تتبدّد في أفق أشواق طالما اجتاحتني وأنا أبحث عن ذلك (العزيز جداً) في تفاصيل (البُعاد الطال). مفردات المرحوم محمود محمد مدني الغارقة في الحنين، والموغلة في التوبيخ كانت تنساب من مسجل (البص السياحي) إلى مَسَامعي بصوت الرائع أبو عركي فتحيلني إلى (كون من جراح).. هي ذات الأغنية التي طالما ردّدناها سوياً، (يا قلب أنا كنت قايلك تبت من تعب السفر، من مخاواة القماري ومن شراب موية المطر، ويا قليب يا ما سرحنا مرة جينا والف رحنا ومرة شاي عصرية في طرف الغمامة ومرة منديل مسقي حنة). ها هي المطر التي تنبهني روضة الحاج إلى وقعها القاسي على ذاكرة تابي إلاّ أنّ تكون مزدحمة بكثير من المواقف والذكريات الحميمة، (واحترت في سر احتدام تذكري لك بالمطر). هو ذا الخريف يرش عطره على القضارف، وذات الغيم يجمل أهداب المدينة بدعاش اللحظات الندية، ومحمد عباس (ابن العم العزيز) في انتظاري على مشارف اللهفة وسرمدية اللحظة العبقرية التي تجمعنا بعد طول غياب.. عيونه الذكية وملامحه المسكونة ببريق العذوبة كانتا أول ما رأيت وهو يستقبلني انتظاراً للحظة (عناق) تطفئ نار الشوق التي لازمتنا سوياً منذ أن باعدت بيننا المسافات وطالت السنوات. كان هميماً وصدوقاً، يُجَمِّله وقارٌ لا ينتهي، وتُميِّزه مروءة لا تغيب تحت كل الظروف،كان نقياً وصاحب ضمير لا ينام ولا يمل عن تنبيهه الى عظة هنا وعِبرة هناك، عاش باراً بأهله، سنداً للقبيلة وابناً لكل الناس، (أخو إخوان)، صاحب حديث عذب والتقاطات ذكية ونظرة عامرة بالخير والجمال. اصطحبت كل هذه الصفات وأنا أهرول باتجاه أحضانه المشرعة والعيون تَتَوسّل - ببقايا دمعات للحظة تتوقف فيها عقارب الزمن، رددنا خلالها سوياً: يا قلب.. وأكملناها: أنا كنت قايلك تبت من تعب السفر - ما زمان أنا وأنت لفينا الموانئ بالقطارات والمطارات والسفن - دَقّينا أجراس الجديد وعدنا ترتيب المعاني .. (جاي تسألني الدبارة لا المراكب قادرة تكسح في النزيف ولا نحنا شايفين الفنارة )..! (ومن شدة الشوق العلينا) تعاهدنا ألا نفترق، وظللنا على ذات الميثاق، لأن (العزيز محمد) من قلائل تشتهي الا يغيبون عن عالمك- يضيفون إليك الكثير، كان محمد خارقاً لكثير من العادات حتى يُخيّل إليك انه ليس من البشر، امتاز بلسان عفيف وقلب شفيف، أدب جم، صوت خافت لا تخفضه الأزمات ولا تزيده الانفعالات، صاحب مزاج معتدل في كل الظروف والمناخات، جسور تسكنه حكمة بائنة، وودود يمنحك ابتسامة صافية في كل الأحوال، لم نسمعه منفعلاً ولم نره خائراً، كان آخر من ينهار.. يبكي سراً ليمنحك القدرة على التماسك في أصعب الأوقات..! ولأن نفسه عزيزة وهمته أكبر من الواقع، لم يراهن على علاقات والده بالصفوة السياسية، كان يعشق التراب ويهوى الزراعة، فعاش يأكل من عرق جبينه وكد يده، كنا نودعه وهو في طريقه إلى المشروع ونتوسّل اليه أن يبقى بيننا، لأن الخرطوم بدونه (مسيخة)، كان يبتسم إلينا ويوعدنا بأن اللقاء سيكون قريباً، فلا نحن ولا صغاره (درة وأحمد ومعاذ) نستطيع إثناءه عن عشق التراب والطورية..! آخر رحلاته للزراعة عاد منها طريحاً على فراش مستشفى الخرطوم، متورم العينين والجسد، تحالف فوضى المبيدات وسوء تشخيص الأطباء نال من جسده الفارع الذي ينضح بالعافية، قاوم المرض ببسالة واحتفظ بابتسامته الناصعة وصبره في مواجهة تسمم الدم الذي تسرّب الى المخ سريعاً.. وقدمه للموت.. مات محمد مسموماً ومبتسماً.. أودعناه شبراً في مقابر الصحافة شرق في ليل حالك السواد وبالغ الفجيعة، وغفلنا نردد: (إنا لله وإنا إليه راجعون). عزيزي محمد: روحك الطاهرة مُعلّقة على حواصل طير خضر.. نُمْ قريراً فأنت بيننا بسيرتك الفارعة.. حَيٌّ تُرزق..! آخرالعنقود نجلك (عباس) شرف الدنيا مُوقّعاً على دفتر الحضور عبارة تقول (حضرنا ولم نجدكم) يا قلب..!
نعيد نشرها بناء على رغبة بعض القراء

أضف تعليقك طباعة الموضوع أرسل الموضوع
(قراءة: 947 تعليق: 4 طباعة: 20 إرسال: 0)
التعليقات

--------------------------------------------------------------------------------

1/ صابر محمد عبدالرحيم - (الرياض / السعودية) - 29/11/2010
أحسن الله عزاؤكم أخي محمد عبدالقادر في إبن عمك محمد ونسأل الله يسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وأن يجعل البركه في عباس وأخوانه ( إنا لله وإنا إليه راجعون ).

--------------------------------------------------------------------------------

2/ أبوخديجة - (السودان ـ جنوب دارفور ـ نيالا) - 29/11/2010
اللهم إرحم محمد عباس وأدخله الجنة مع الصديقين والشهداء ، اللهم زد في حسناته وإجعل قبره روضة من رياض الجنة ، وتجاوز عن سئياته ، وأزرع البركة في ذريته ...

--------------------------------------------------------------------------------

3/ Awaad M.Ahmed - (KSA) - 29/11/2010
الاخ محمد احسن الله عزاؤكم فى ابن عمك سائلا الله عز وجل ان يسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وان يجعل البركه فى اولاده وان يجعلهم من الصالحين الذاكرين لربهم والذين يدعون لوالدهم بالرحمه والمغفره 0 ان الصفات التى ذكرتها فى المرحوم قل ان تجدها فى زمننا هذا وهذه من صفات الصالحين0 رحمه الله رحمة واسعه واحسن الله عزاؤكم واسرته الكريمه

--------------------------------------------------------------------------------

4/ بشرى مبارك إدريس - (بريطانيا..... برمنجهام) - 29/11/2010
الاخ محمد اللهم أغفر له وأرحمه وعافه وأعف عنه وأدخله الجنة وأعذة من عذاب القبر وعذاب النار. فى الحقيقة كلمات معبّرة تفاعلنا معها دموعاً بصدق وسرحنا فى شريط فقد الاصدقاء والاقارب الاعزاء والذين حين يسافروا ويغادروا دفاتر الحضور الدنيوى الى الحضور الاخروى يزيدوننا غير تخسير إيماناً بالقدر وتقليلاً من شأن البشر الاحياء على الاقل ونتذكر أن فى الموت (عِبرة وعبره) وكل طعم له طعم أخر وممتد .نسأل الله أن يسكن فقيدكم الجنه وأن يجعلنا نعتبر بمعنى العبرة من الموت وفقد الاحبه محمد وصحبه اللهم أغفر لكل من حمل إسم محمد وأولهم سيدنا محمد خاتم الانبياء والرسل ونصلى ونسلم عليه عشراً حين نصبح ومثلها حين نمسى لتحق لنا شفاعته إن شاء الله ونستمتع والى الابد مع محمدصلى الله عليه وسلم وصحبه