ماذا قال محمد سعيد محمد الحسن فى الرآى العام عن الخرطوم زمان؟؟؟؟؟

عالم العاصمة الخرطوم في حقبة الستينيات كان عالماً مثيراً وجاذباً ولا يخلو من اختلال او انفلات اجتماعي بالنسبة القادمة دون العشرين من العمر من مدينة مثل شندي هادئة ورصينة حيث كان يعيش اهلها كائن واحدة بتعاطف وتواصل وتآخ واحترام متبادل، كانت العاصمة بحق جميلة نظيفة، انيقة، حافلة بكل شيء متوفر فيها، وربما أكثر من عواصم اوروبية كلندن، حيث كانت بريطانية العظمى تعطي الاولوية في التصدير للجيد من انتاجها للاقمشة والاحذية وغيرهما ولذلك فوجيء نجوم فرقة «اضواء المدينة» عندما جاءوا إليها لاحياء حفلات على مسرح أم درمان، إذ كانوا في ساعات الصباح يتجولون في اسواقها وبوجه خاصة في السوق الافرنجي باناقة عرضه ومحتوياته، ولقد شهدت الفنانين عبد الحليم حافظ وشادية ونجاة الصغيرة وفؤاد المهندس، والكاتب احسان عبد القدوس والمذيع جلال معوض وغيرهم وعيونهم تغطف بالدهشة والاعجاب وايديهم تمسك بالانتاج الاوروبي الجيد من اقمشة واحذية وقمصان وعطور وادوات تجميل، أو لدى دخولهم الصيدليات، حيث تتوافر العقاقير الحديثة، العلاجية والصحية بوجه خاص «الفتيامينات» وكانوا يركزون على افتتائها وكانت تحويلاتهم محدودة، كانوا يستفسرون عن العسر ثم يعلقون (ياخسارة) اي انه ليس بمقدورهم شراؤه، ولكن اصحاب المتاجر والصيدليات يسألونهم عن الالوان التي يفضلونها اومقاس الحذاء أو القميص أو لافيتامينات وغيرها ثم يقدمونها بكميات وفيرة لهم كهدايا، وبلغ من حجمها ان اصحاب هذه المتاجر وضعوا سياراتهم بسائقيها لنقل هذه الهدايا بكافة اشكالها وانواعها لنقلها للفندق الكبير، حيث كانوا يقيمون وكان الفنان عبد الحليم حافظ يردد انه لا يصدق. ويرد عليه الفنان أحمد المصطفى (لازم تصدق انت هنا وسط اهلك في الخرطوم).
كانت هنالك الدور الاجتماعية والثقافية، العديدة في وسط الخرطوم، حيث يؤمها الكثيرون لحضور الندوات والمحاضرات ومعارض الكتب واللوحات الفنية، كان النظام والانضباط والنظافة والاناقة في كل شيء وبمستوى ممتاز وعمليات الصيانة للشوارع والميادين أو الاسواق تتم لدى منتصف الليل وتغسل الشوارع بعناية شديدة.
أما بالنهار فان المرور فمنساب بسلاسة وعلى مدار الساعة من الترام الى البص الى التاكسي إلى العربات الخاصة، وكان السوق العربي الذي يبدأ في الصباح المبكر حيث تستقبل مقاهيه الألوف من العمال لتناول شاي الحليب والقهوة قبل ان ياخذوا طريقهم لامكان عملهم.
أما المتاجر فمتخمة بكافة السلع الضرورية وبسعر زهيد يتعاريف وقروش قليلة كان التجار يقبلون على زيائنهم بترحاب ومودة وإلفة ويدفعونه إليهم ما يطلبونه ولا يفاصلونهم أو يراجعونهم فيما يدفعونه، أما محلات المطاعم والمقاهي في مفتوحة صباحاً ونهاراً وليلاً، وبوجه خاص ففي شارع الجمهورية والبلدية، ولكل مطعم زبائنه واطعمته التي اشتهر بها، وكذلك مواقع الحلويات وبوجه خاص (الجي جي)، الآيسكريم والباسطة والبقاش وحلويات ومشروبات الفاكهة والالبان، وأما إذا اقبل الليل ازدانت الخرطوم بالاضاءة والاناقة في الفنادق الصغيرة والكبيرة في وسط الخرطوم وفي الاطراف القريبة وفي الفندق الكبير وحدائق المقرن والمقاهي الكبيرة، حيث التجمعات من كافة ألوان الطيف السياسي والفني والثقافي والتجارة والرياضي والاقتصادي ومن يسمونهم بنجوم المجتمع وسماره، وكانت هنالك دور السينما بعروضها الجذابة من الافلام الجديدة مصرية وانجليزية وامريكية وهندية وعلى نظام الدورين الأول والذي يبدأ السادسة والنصف مساء وينتهي في نحو التاسعة تماماً، والدور الثاني الذي يبدأ في التاسعة والنصف وينتهي قبل منتصف الليل.
في مواجهة اتجاهين
كانت العاصمة عندما ولجتها لأول مرة في تلك السن المبكرة تبدو بالفعل كالعالم من الاثار والغموض والمغامرة وتلقين آنذاك نصيحتين مهمتين من استاذين كبيرين بشير محمد سعيد وإسماعيل العتباني وكلاهما رئيس تحرير لحصيفة كبرى، النصيحة الأولى اذا اردت التعرف على مصادر الأخبار لمعرفة رؤوس الأخبار ومتابعتها فعليك بارتياد محافلهم في انديتهم، والفندق الكبير، أو المقهي واحياناً في بيوتهم، حيث تنظم جلسات السهر والسمر، أما النصحية الثانية فتحذير شديد يتجنب اماكن السهر أو ارتياد ما يسمى (بالقعدات) وتجنب بعض أهل المهنة الذين اعتادوا التجوال الليل كله.
كانت النصيحة الثانية اقرب إلى تكويني ونشأتي إلى جانب انني مثابر على الدراسة بعد انتهاء ساعات العمل واحرص على علاقاتي مع أهلي وزملاء الدراسة وزاهد تماماً في غيرها.