لقد تناولت في مداخلتي السابقة ما سطره الشعراء في مكابدتهم لويلات الفراق ومرارة الوداع حيث أدهشني ود القاضي بهذا الموضوع الثر الذي يرغمك على المشاركة، وكنت احسب ان الموضوع قد انتهى عند هذا الحد، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في مداخلة العم الرائع جداً أبو زهران فعندما يثني على مشاركاتك المرهف الإحساس والمتشبع بالإبداع عمنا الجميل محمود يلغي عليك عبء ثقيل ينوء به أولى القوة، وهو ما حملني ودفعني دفع للمشاركة في هذا البوست مرة ثانية ، وأريد ان اعكس لكم أحبتي أروع ما قيل في حب الأوطان والأماكن وهو الشق الثاني من موضوع حبيبنا ود القاضي:
ولا يمكن باي حال من الأحوال تجاوز ما قاله الشاعر المملوء عشق مجنون ليلى:
لا يعرف الحزن إلا من عشقا ... وليس من قال إني عاشق صــــــدقا
للعاشــــقين نحول يعرفون به ... من طول ما حالفوا الأحزان والأرقا
أما واعدتنـــــــــي يا قلب أني ... إذا ما تبـــــــــت عن ليلى تتوب
فها أنا تائب عن حــــــب ليلى ... فما لك كلــــــــــما ذكرت تذوب
أمر على الديــــــار ديار ليـلى ... أقبل ذا الـــــــجدار وذا الجـدارا
وما حب الديار شـــــغفن قلبي ... ولكن حب من ســـــــكن الديارا
أشارت بطرف العين خيفة أهـــلها ... إشارة مذعــــــور ولم تتكلم
فأيقنت أن الطرف قد قال : مرحبا ... وأهلا وسهلا بالحبيب المتيم
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... ويحيا إذا فارقـــــــــــتها فيعود
وقال امرؤ القيس بن عمرو الكندي
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمأل
(
حيث ذكر سقط اللوى، والدخول، وحومل، وتوضح، والمقراة) وهي مواقع لها أهمية لارتباطها بمحبوبته.
وها هو طرفة بن العبد البكري يذكر مكان محبوبته ويسمى (برقة ثهمد):
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجلد
وأحب زهير بن أبي سلمى محبوبته، ومواطنها (حومانة الدراج، والمتثلم، والرقمتان) حيث قال:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
بحومانة الدراج فالمتثلم
ودار لها بالرقمتين كأنها
مراجيع وشم في نواشر معصم
وكذلك بقية شعراء المعلقات اشتاقوا قديماً إلى أوطانهم واشتد حنينهم إلى منازل الصبا، ومواطن الأهل، وقد يحب الإنسان وطنه مع عدم توفر ما يسعى إليه. قال الشاعر:
وتستعذب الأرض التي لا هوى بها
ولا ماؤها عذب ولكنها وطن
بل إن حب المكان يحول ترابه إلى مسك وكافور، وأشجاره ذات الأعواد الجافة إلى رند
وهو نبت طيب الرائحة:
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه
من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية
تمشت وجرت في جوانبه بردا
حيث خلد هذا الحب وادي الجزع، وخلد الشعراء القدماء حب الدياروتحديدها بالجبال والاودية، والسهوب، وتشرب ذلك الحب ابناؤهم، واصبحت الاجيال تردد ذلك الشعر، وتعلم موطن الشاعر بجباله واوديته التي عاش فيها وخلدها شعره فهذا الشاعر «عائذ بن محصن» ولقبه المثقب العبدي رصد خمسة مواطن في بيتين من الشعر:
لمن ظعن تطالع من ضبيب
فما خرجت من الوادي لحين
مررن على شراف فذات رجل
ونكبن الذرائح باليمين
حيث ذكر الشاعر من الاماكن «ضبيب» و«الوادي» و«شراف» و«ذات رجل» و«الذرائح» وهي مواقع لها اهمية لدى الشاعر، لارتباط ذلك برحيل حبيبته «فاطمة» ومطالبته اياها ان تمتعه قبل رحيلها بالحديث والنظر والتحية قبل ان يحول البعد بينه وبينها او كما خاطبها في بداية قصيدته قائلاً:
افاطم قبل بينك متعيني
ومنعك ما سئلت كأن تبيني
فلا تعدي مواعد كاذبات
تمر بها رياح الصيف دوني
قال الشاعر: لقرب الدار في الاقتار خير
من العيش الموسع في اغتراب
قيل لاعرابي: اتشتاق الى وطنك؟
قال: كيف لا اشتاق الى رملة كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها!
وكنا الفناها ولم تك مألفاً
وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
كما تؤلف الأرض لم يطب بها
هواءً ولا ماءً ولكنها وطن
وهاهو ابن الرومي وقد عصف به الشوق الى وطنه فكيف يفرط به او يبيعه او يتنكر له:
ولي وطن آليت الا ابيعه
والا ارى غيري له الدهر مالكا
عهدت به شرخ الشباب ونعمة
كنعمة قوم اصبحوا في ظلالكا
وحبب اوطان الرجال اليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
اذا ذكروا اوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
فقدالفته النفس حتى كأنه
لها جسد ان بان غودر هالكا
وما ذاك الا ان الوطن جزء غال من الشخص ومسرح احداث حياته بمراحلها المختلفة وحياة اجداده وعبر عن ذلك ابن الرومي ايضاً في تشوقه الى بغداد، وقد طال مقامه بسر من رأى:
بلد صحبت به الشبيبة والصبا
ولبست ثوب العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته
وعليه اغصان الشباب تميد
ولان ذكر الديار يهيج العواطف الكامنة، فقد جعله العرب من مهيجات قول الشعر عندهم، حيث وقف الجاهليون على اطلاق الاحبة. [justify]