[في استقرائنا لتاريخ الهمباتة ثبت لنا أنهم لا ينزعون للقتل إلا دفاعاً عن النفس أو المال أو العرض، وهو استقراءٌ يعضده أن القتل يترك على وجه محترفيه آثاراً لا تُخطئها العين، ولكن تلك الوجوه تحفُّ بها هالة الشعر البهيّ وينبثق من مآقيها حنينٌ دافقٌ ودافئٌ لسحر الطبيعة والعشق النبيل، وقصتنا هذه بطلها العشـــق، وقد وقعت أحداثها في النصف الأول من القرن الماضي بديار الكبابيش، واكتملت فصول مأساتها بسجـن كوبر، عندما تدلى حبل مشنقته وهو يئن بثقل إنسان.
كباشي لا يعرف دياراً في هذه الدنيا غير ديار الكبابيش التي ينتمي الى قبائلها ويحمل إسمه صفتها، ولا يخرج من حدودها الا عندما تحمله الأيـــــــانق في سبيل النهيـض والمغامرة، ولكنه جابها طولاً وعرضاً، يعرفه أهل حَمْرَةَ الْوِزْ، وتطرب لأشعاره حَمْرَةَ الشّيخ ، ويتردد اسمه بإعجاب في أم بــادر والصافيــة وســودري، وتتــغني بخصاله حرائر الجـامة وأم سنــطة ووادي المِلْـك العفيـفات. فقد كان شهماً ومغامراً جلداً وصلداً وشجاعاً وشاعراً رقيـقاً، غنى للرهـود والوديــان وللرمــال والجمــال والحسان والعشق والأرائل والظباء بقوافٍ لا تتأتى إلا للمتمكنين، فقد كان شيطاناً في خيــاله ونـبـيــّاً في شعره، ابتسمت له الدنيا فتعشقها، وأعطته ديــــار الكبابيش أمومتها وحنانها فأدمن حبها، وعندما تم طرده منها بقرار أصدره زعيم القبيلة قضى بنفيه خـارج حـدودها أظلمت الدنيــا في وجــهه، وكان وقع القرار على نفسه أشــد قســـاوة ومرارة من وقع الحــكم الذي صدر بحقه لاحقاً باعدامه شنقاً حتى الموت.
كانت ديــار الكبابيش هي كل حياته، وكم تمنى أن يموت بها كما ولد بأرضها، بين ابنتيه اليافعتين، وزوجته الحسناء الغيور التي أحبها وظل مخلصاً لها، الى أن جرت احداثٌ ما طافت بخياله وشكلت مأساة حياته وهي مأساة بدأت تنسج شباكها من فتائل قوية تسربلت بالسواد، وكانت أول هذه الشباك غيرة زوجته، التي كانت تحبه حباً جارفاً وتغير عليه غيرة مجنونة، وكلما قال شعراً تزداد غيرتها وتأتيه غاضبة تسأل عن كلمات الغزل التي وردت في شعره لمن؟! أو عن صفات الجمال التي زينت أشعاره.. من هي؟! فحاول كثيراً أن يقنعها بأنه شاعر، وللشعراء أخيلة ترتاد الآفاق، وأنه لا يحب سواها ولا يسعى الى غيرها. ولكن غيرتها العنيدة تمنعها ان تقتنع بما يسوقه إليها من تبرير فلا تفتأ تعود اليه مع ولادة كل مربع شعري وهي تحمل ثورتها وغيرتها