تخيلتُ للحظة أن العمر قد ينقضي، والسنوات تتسرب من نوافذ انتظاري، ومازال في فمي ما لم أقله بعد، ليس ما قلتُه للآخرين هو بالضبط ما أردتُ قوله، يبقى دائما كلام خائف مختبئا بين حنجرتي وأنيني، كلام يرفض سماعه الآخرون، تعودتُ أن أقول ما يُرضي سامعي لكي يواصل الإنصات إليّ، نحن نرشو من يسمعنا لكي يسمع، نكيل له المديح لكي يطرب ويُنصت، نقول له كل شيء ما عدا الحقيقة، وإذا قلنا الحقيقة نقولها بعد أن نُلبسها أثوابا ليست لها، ونغطيها بأردية من صنعنا لكي تبقى في مساحة تتأرجح بين المعنى ونقيضه، بين الغموض والوضوح، نكبر فتصغر مساحة البوح، نحب ونخفي، نكره ونخفي، نخاف ونخفي، حوارنا مع وجودنا ورغباتنا وهزائمنا واحتياجاتنا يبقى سريا، لا نجعل أحدا يعرف أننا نبكي ونحب ونخاف ونشتهي ونريد، ثم يذهب الذين كانوا معنا دون أن نخبرهم بشيء، ودون أن نقول لهم شيئا، ذهبوا وهم يجهلوننا، نحن غرباء عنهم حتى لو جمعتنا بيئة وظروف وعادات كثيرها موروث وقليلها مكتسب، بيننا خوف متبادل، وادعاء متبادل، وتظل الحقائق مدفونة فينا حتى تختنق، لماذا لا أعترف بحبي لك وتعترف بحبك لي، ولماذا نعترف بالحب اعترافا وكأننا نعترف باقتراف جُرم أو خطيئة، كم من راحل رحل من بيننا دون أن يعرف من يحبه ومن يكرهه، وكم موجود بيننا لا يعرف مكانه في قلوبنا، كلنا تقريبا، أبي كان يحبنا بطريقته الصارمة الحازمة، لم يعرف أخي الراحل أن أبي يحبه كل هذا الحب، نحن أبناءه الأحياء عرفنا ذلك من حسرة ارتسمت على وجه أبي بقية حياته، وكلما جلس على شرفة الوقت ليلا بمفرده تنزل من عينيه دمعة كبيرة كبيرة بحجم بلادي كلها ..ندم، من وقتها وأنا أريد أن أقول، أريد أن أبوح بكل شيء، لا أريد أن أبقى صديقا للورق الأبيض المحايد الذي يحملق في وجه قلمي بغباء، ويتركني أخربش عليه رسوم حزن عتيق، وأشكال فرح عابر، أريد وجه إنسان يتقن قراءة الوجوه ويعرف كيف يفسر صلوات الصمت، أريد أن أحكي لإنسان يعرف كيف يسمع، ويشعر بالحيرة ذاتها وبالقلق ذاته، أريد أن أتلو أناشيد غربتي واحدا تلو الآخر بين يدي امرأة يقلقها وجودها، ويستهويها السفر مع لحن شرقي المسافات إلى حيث يسكن الغناء الحميم أمام الماء، لماذا نظل نهرب إلى الكتابة، وبعد الكتابة نعود ثانية إلى اللاجدوى واللاأمل، سكوت الورق يأخذنا إلى إحساس عامر بالحموضة بأننا نعيش بمفردنا، ليس معنا سوى تساؤلات لا يسمعها غيرنا، نمشي بشكل منفرد، ونقلق بشكل منفرد ونكلم أرواحا لا تسمعنا، أعرف السبب في سكوتك يا صديقي، إنك تتساءل قائلا : حتى لو تمردتُ على خرسي المولود معي فمع من أتكلم، أنظر إلى وجوه المارة، لا شيء يدعوك للكلام، لكنني أقول لك ياصديقي، المارة مثلنا، ربما بحثوا كثيرا عمن يسمعهم، لكنهم وصلوا إلى بوابات يأسهم، فآثروا السير صامتين، نحن نتشابه دون أن ننتبه، نتلاقى دون أن يدفعنا تلاقينا إلى الكلام، حتى صار سكوتنا من ذهب، هذا ما قاله فيلسوف حزين ضايقته مجموعة من الحمقى، لو قررنا الكلام وتكلمنا بصدق سنجد من يسمع، وسنجد من يعرف كيف يردد معنا أغنية الحياة، في حالة السكوت لا يبقى غير الندم، ذلك الوحش الذي يلتهم ما يتبقى معنا من انتظار للفرح، ويمسح عن وجوهنا كل مشروع ابتسام، هل صحوتَ يوما على صوت طائر يقف خلف الزجاج، إنه يتكلم، إنه يقول ، ليس بالضرورة أن تفهم لغته أو تعرف ماذا يقول ولمن يقول، لكنه يتسق مع وجوده بشكل فطري، يشعر بهذا الوجود، لا يقلقه رحيل عصفور آخر المهم أنه موجود، وللوجود دلائل أهمها الكلام، من هنا جاء صراخ الفيلسوف « تكلم حتى أراك » ففي كلامك تفسير لحقيقتك، وشرح لرسالة وجودك، كلامك يفتح ممرات التلاقي مع من يجاورك في هذا الكون، حتى لو كان الذي يجاورك طائرا مهاجرا، أو فراشة تلهو مع ألوانها، أو وردة جاءت إلى الحياة قبل قليل، كانت اللغة للكلام وليست فقط للكتابة، المهم ألا يكون كلاما معتادا أفضل منه السكوت، وبدلا من الكلام المعتاد تعال يا صديقي لنعتاد الكلام الحقيقي الذي يجعل لوجودنا معنى، قبل أن نفترق ولا يبقى غير الندم.